زمن الخيول البيضاء للكاتب ابراهيم نصر الله، من اجمل الروايات التي قرأتها والتي تطرح القضية الفلسطينية في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
تفاصيلها تصنع الحقيقة التي نجهلها في الرواية التاريخية الفلسطينية. فيها انسياب ووضوح في تشكيل الشخصيات. فيها حب وغيرة، فيها انتقام ووحشية محتل بريطاني تسكع في البلاد ما يقارب ال 30 عاما.
لأول مرة اتعرف على عالم أجدادي، على حياتهم الخصبة وعلى الظروف التي عاشوها قبل حرب التهجير. حياة مليئة بالتناقضات، فيها الخير والشر، فيها المتعاون وفيها الثائر. عرف أجدادي ما يحيط بهم من شر، بناء المستوطنات وتسليح العصابات اليهودية ودعم البريطان لها. تخاذل الانظمة العربية وتكون طبقة من المستفيدين الفلسطينيين من الاختلال اللذين اسحبوا بلباقة قبل الحرب، تاركين البلاد واهلها للموت او الطرد.
احرصوا على الا تهزموا إلى الابد والمستقبل كان واضحا للسكان الاصليين حتى قبل الحرب. ولا بد ان لا ننسى وصية خالد الشيخ محمود لصهره نوح قبل استشهاده على يد الجنود البريطانيين. قال له: "كان والدي رحمه الله يردد دائما: لايمكن لاحد ان ينتصر الى الابد. لم يحدث ابدا ان ظلت امة منتصرة الى الابد. ودائما كنت افكر فيما قاله، لكنني اليوم أحس بأن شيئا آخر يمكن ان يقال أيضا وهو اني لست خائفا من أن ينتصروا مرة وننهزم مرة او ننتصر مرة وينهوموا مرة، انا اخاف شيئا واحدا هو ان ننكسر الى الابد. لان الذي ينكسر الى الابد لا يمكن ان ينهض ثانية. قل لهم: احرصوا على الا تهزموا الى الابد". كانت هذه كلمات الوداع التي القى بها خالد الحاج الى رفاقه في السلاح، وهو الذي قاوم الاتراك والاقطاعيين ومن بعدهم المستوطنين اليهود والبريطانيين واضاف: " الشيئ الوحيد الذي لم يخطر ببالي في يوم من الايام انني ذهب لألحق الهزيمة بأحد، كنت مثلك ذاهبا لأحمي حقي. وانا الآن لا اريد التسلل هاربا. ولا أريد أن اقوللكم أكثر من هذا: لست هنا لانتصر، أنا هنا لاحمي حقي".
النهاية والبداية
اما الصحافي محمود والذي ترك قريته الهادية ليعيش في مدينة يافا، فكان ملك النهايات، لا تهمه البداية بل النهاية. ولكنه كان هاربا من الإجابة على نهاية الصراع في فلسطين، قال إنه ليس كاتبا ولذلك لا يستطيع كتابة النهاية. هل هذا الهروب يحمل في طياته ايضا الهروب من المسؤولية؟ محمود يمثل المثقفين الفلسطينيين في ذلك الزمان التعيس، ولكنهم لم يتنازلوا ليكونوا بين العامة، كانت تبهره السنما والموسيقى والكتب، ولم يكن ليركب فرسا حتى في يوم عرسه مسميا ذلك رجعية. محمود يتحدث عن النهاية الت هي داية وعن البداية التي هي نهاية، تماما كما هي الحياة.
فرسان هذا الزمان الحمامة فرس اصيلة، يحبها الرجال كما ولو كانت ملكة النساء. كانت تلك السنوات زمن رجال يسيرون مع الخيل، يتحدثون إليها يكتبون تاريخها، ويركبونها للحرب وللحب.
زمن الخيول البيضاء هو زمن الرجال الذين سيقوا الى الهجرة والطرد، لكن وما هي امكانياتهم وقتها؟ وهم يرون القوة البريطانية تدعم الاستيطان؟ حتى الآن لم أعرف ماذا كان يملك أجدادي غير الكرم والصبر. وهما أمران مهمان بحد ذاتهما. ولكن ما هي الإمكانيات العملية التي كانت لهم ولم تستغل؟
تعري الرواية القيادات الفاضحة التي أجرت التمويه السياسي ولسنوات طويلة سواء أكانت داخل فلسطين أم خارجها. وتدخل خبايا الأنفس وتخرج منها في سلاسة.
وعندما أطالع هذه الرواية، أجد تشابها بين الماضي والحاضر، وكاننا لم نتعلم من التاريخ، وكان الهجرة لم تزدنا إلا إمعانا في العودة إلى ذات الاخطاء. كيف نبت الجدار ليفصل بين الفلسطينيين في الضفة والداخل والقطاع؟ كيف سمحنا لقانون منع الشمل في حالة الزواج بين الفلسطينيين الذين يحملون الهويات الاسرائيلية (الزرقاء) وبين حملة الهويات الفلسطينية (البرتقالية والخضراء)؟ كيف سمحنا للمستوطنات ان تكبر في الأراضي المحتلة؟ كيف سمحنا لأن تجري تصفية المصلين للدخول إلى المسجد الأقصى؟ كيف تعلو اصوات الفتنة بين غزة والضفة بلا مصلح من بيننا؟ وكيف ينمو الشوك بيننا وتكبر طبقة المستفيدين من الإحتلال من بيننا بلا حياء؟
هل ساجد نفسي يوما وانا اكتب رواية اليوم وانا في المهجر؟
نعم. الرواية لم تنته بعد. لا نهاية حتى الآن. لاجئون في الخارج ولاجئون في الداخل. وعندما ركب أهل الهادية عربات الأمم المتحدة وبكوا على قريتهم المحاطة من أربع جهات، لم يعرفوا أين ستلقي بهم الأيام. ونحن اليوم لا نعرف ايضا أين ستلقي بنا الأيام. وهل سنبكي كما بكي ابن عبد الله بن الأحمر، وهو يفر من الاندلس بعد ان استولى عليها الاسبان قبل حوالي 500 سنة؟